بقلم – سمير السباعي
تعتبر الراوية جنسا تعبيريا إنسانيا يحاول من خلاله الروائي بناء عالم سردي يحضر في تجارب كتابية عديدة على شكل لقاءات حميمية بين عنصري الواقع و التخييل، خاصة إذا ارتبط الأمر بحرص هذا الكاتب أو ذاك على ملامسة ظلال هوامش المجتمع والمسكوت عنه في السرد التاريخي التقليدي. ضمن هذا السياق نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء يومه الخميس 09 نونبر 2023 على الساعة التاسعة صباحا بقاعة عبد الواحد خيري بنفس الكلية، ندوة علمية حاول من خلالها باحثون ومختصون في النقد الروائي مقاربة أعمال الكاتب المغربي محمد لمباركي من خلال الحرص على استجلاء أهم مساحات التاريخ و الهامش داخل التجربة الروائية لهذا الاخير.
مقالات ذات الصلة
وقد عرف هذا اللقاء فقرات متنوعة حاولت أن تناقش الإطار العام الناظم لروايات لمباركي من مداخل قرائية متعددة.
وحرصا منا على ضمان أن تكون هذه الفسحة الإعلامية فرصة للتعريف بأهم معالم هذا اللقاء العلمي سنكتفي في هذا المقام بتقديم نماذج من تلك القراءات، التي قدمها باحثون حول عدد من المتون الروائية للمباركي حاولوا من خلالها مناقشة الأبعاد الجمالية والسردية والدلالية داخل هذه الأخيرة، حيث عمل محمد رحو من خلال مداخلته على الكشف عن جوانب رئيسية في رواية التراب المبلل معتبرا أن لمباركي نجح من خلال هذا العمل تسليط الضوء على معارك شخوص من المقصيين والمهمشين وبحثهم المستمر عن ولادات جديدة واعية بواقعها تمكنهم من الاستمرار. في حين عمل محمد دوهو عبر مداخلته التي قدمت بالنيابة نظرا لتعذر حضور هذا الأخير، على الوقوف على ما تنطق به رواية شروق شمسين في محكيتها من استعارات وظيفية يخاطب من خلالها لمباركي حفريات من ذاكرتنا الجمعية ليجعل من شروق الشمس الأولى تعبيرا عن رغبة في الكشف عن خفايا الأجسام والشخوص والأشياء، ويجعل حقيقتها واضحة وجلية أثناء زمن القراءة قبل أن يصير غروبها إعلانا عن ميلاد حالة من الحزن التي تخيم على فضاءات الأمكنة والأزمنة داخل متن الرواية بشكل يوحي حسب دوهو أن حضور الكاتب كقارئ ضمني موجه له الخطاب الروائي هو معطى واضح، طالما أن دلالية انفصال الشخصية البطل عن مهجة الشمس داخل متن الرواية ترتبط برغبة الكاتب الإشارة إلى غروب شمس الأندلس وضياع تجربتها الحضارية، لتصبح إشراقة الشمس الثانية داخل هذا العمل الروائي محاولة لكتابة تقاوم النسيان وتجعل منها شرطا للانتصار لذاكرتنا الاشعورية حول ماض حضاري كان يشع من الأندلس. وهذا النفس الروائي هو ما حاولت تجارب كتابية هي الأخرى الخوض فيه كما أشار إلى ذلك دوهو مثل ما قام به حسن أوريد في رواية ربيع غرناطة.
وقد كان هذا اللقاء الفكري مناسبة أيضا عمل من خلالها الناقد الميلودي عثماني على تقديم شهادة بخصوص المسار الروائي لمحمد لمباركيـ معتبرا أن غياب الضوابط الأجناسية في مثل هذا النوع من المداخلات يسمح إلى حد ما للشاهد بقراءة تجربة المحتفى به عبر مساحات مفتوحة من البوح. اعتبر لعثماني أن الحديث عن المنجز الروائي للمباركي القادم من الجهة الشرقية للمغرب هو في عمقه دعوة إلى ضرورة إنجاز مرافعة، حول واقع الكتابة الروائية في هذه المنطقة من بلادنا طالما أن الشعر هو الشكل التعبيري أو السردي الذي ظل مهيمنا لفترة طويلة من الزمن على المشهد الادبي هناك، رغم أن المتن الروائي يبدو هو الأكثر قدرة على التشخيص وصون الذاكرة حسب تعبير لعثماني.
ويبقى المثير في التجربة الروائية لمحمد لمباركي حسب نفس المتدخل أنها حاولت أن تمكن الكاتب نفسه كمشتغل بالدرس التاريخي من مساحات تعبيرية أكثر رحابة وجرأة، استطاع من خلالها الوقوف على تجارب الحياة عند مهمشي المجتمع بعيدا عن النظم التاريخي والفضاء التعبيري الضيق للقصة التي شكلت أولى كتاباته الأدبية، التي انطلقت بنشره للنص القصصي كلمة الرفض سنة 1984 على صفحات أسبوعية البلاغ المغربي. قبل أن يقرر الارتماء في أحضان الكتابة الروائية باحثا من خلالها حسب الميلودي لعثماني عن ممكنات أرحب للتشخيص وصون الألسن والشخصيات.
وهو ما بدا واضحا حسب نفس المتحدث في ما جاءت به رواية مهجة بلغتها الغير مألوفة الممتعة وبحبكتها الواضحة، من وصف للجانب المظلم في تاريخ الأندلس المتعلق بأنماط معاملة الرقيق الأبيض والغلمان والتي لازال اعتراف وجداننا الجمعي بها مرتبكا إن لم نقل مرفوضا.
ومن الملاحظ أن اشتغال لمباركي بالتاريخ على الصعيد المهني جعله حريصا حسب لعثماني على الدقة في بعض المصطلحات ذات الحمولة التاريخية و اللغوية في رواياته ليضمن بتلك العملية أقصى درجات الرصانة الممكنة للغته الروائية بشكلها السردي والتخييلي المعبر عبر دلاليات هذا المتن أو ذاك عن جدلية الواقع والتاريخ.
وهي معطيات جعلت نفس الناقد يؤكد على صعوبة الإمساك بتجارب لمباركي الخاصة داخل متونه الروائية نظرا لنجاحه في دمج عوالمه الذاتية، بأخرى موضوعية ضمن وعاء تخيلي. و قد حاولت اللجنة المنظمة لهذا اللقاء العلمي أن تحاور بشكل مباشر الممارسة الروائية لمحمد لمباركي، من خلال مساحة حوارية تم إنجازها مع هذا الأخير من طرف الناقد عبد العالي الدمياني حيث كان هذا الحوار التفاعلي وقفة مهمة لمناقشة جوانب مهمة في المسار الإبداعي للمحتفى به، حيث حضر السؤال حول مبررات انتقال لمباركي من الكتابة القصصية نحو الرواية، مرورا بالحديث النقدي عن بعض كتاباته الروائية وصولا إلى الاستفسار حول ماهية الدوافع الحقيقية لاختيار التاريخ مادة أولية لإنتاج التخيل داخل روايات لمباركي ومدى قدرة الخطاب السردي التاريخي في شكله التقليدي الكشف عن المسكوت عنه.
ضمن هذا الإطار أكد لمباركي أن ممارسته القصصية حتى وإن كانت مستمرة إلى الآن و لو بشكل غير معلن أو مصرح به، إلا أن الرواية استطاعت أن تحتضن أنفاسه التعبيرية، معتبرا أن المحرك الرئيسي لفعله الكتابي هو تحقيق إمتاع ذاتي بدرجة أولى.
وقد أكد لمباركي أن بروز الجهة الشرقية كمجال مهمش في فترة طويلة من الزمن خاصة أن الفكر الكولونيالي جعلها مصنفة من حيث الانتماء المجالي، في ما اصطلح عليه بالمغرب الغير النافع شكلت باعثا وإطارا لإنتاجه لأولى رواياته، وهي رواية جدار التي تنطق بعوالم الهامش في ذلك الجزء من الوطن، جاعلا في نفس الان من هذا العمل، انتقادا لتحول المنظومة القيمية للمجتمع المغربي في الشرق من التكافل الاجتماعي الذي طبع طفولة الكاتب إلى النزعة الفردانية التي تطبع المشهد الاجتماعي في المنطقة الآن.
تعليقات( 0 )