الحداثة سيرورة لن تقف عند أنصاف الحلول: حديث من يأكل الغلة ويشتم الملة

بقلم – امحمد القاضي،
رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله.

لقد صدقنا أننا قطعنا مع فترة غير بعيدة في بداية الألفية، كاد فيها المغرب أن يتجه نحو الغوغائية ويسقط في الظلامية وينحدر نحو المجهول، ويندحر الإختيار الحداثي على حساب سلفية ورجعية فكرية تجرنا نحو قرون بائدة. في نظرة فلاش باك تاريخية، إستيقظنا بعد غفلة وفلتة لنجد أنفسنا أمام إنفجارات، نعيش بين أناس فضلوا التضحية بشباب وتفجير وطن تشبتا بأفكار ظلامية متشددة ومستوردة، وخدمة لأجندة متطرفة. حدث هذا دون مراعاة لتماسك المجتمع ومصلحة الوطن بل إنتصارا لحلم مشرقي.

مقالات ذات الصلة

بنود اثارت جدلا كبيرا وتجب مراجعتها لخطورتها . كيف تفاعل المغاربة مع مدونة الأسرة الجديدة ؟

ابنة الناظور الشاعرة ماجدة البارودي تصدر كتاب “أسرار زهرة اللوتس” في أدب الرحلة

في ظل تجادبات المواقف مع إقتراب الحسم في التغييرات المقترحة حول تعديل مدونة الأسرة لبناء دولة حديثة، بدأت تطل علينا تصريحات وخرجات الغرض منها فرملة الإتجاه الحداثي، وكأن تجربة سنتي 2003 و 2004 لم تلقنا الدروس الكافية.

الدول المشرقية الأكثر تعصبا وتشددا بدأت تنفتح بخطى متسارعة لتدارك التأخير الزمني لتوسيع هامش الحريات الفردية والإعتراف بحق المرأة في الشغل وتسيير المقاولة والسياقة والتصويت ومكتسبات أخرى، كانت بالأمس القريب تدخل في باب المحرمات القطعية، وأصبحت اليوم قابلة للإجتهاد. ماذا تغير؟ أ الدين نفسه أم طريقة تأويله، أم شيوخ البلاط إستعادوا الرشد؟

في بلادنا، أبتلينا مؤخرا بكائنات فيسبوكية تتحلى بعنترية إفتراضية وتحمل ألقاب جهادية “كأبوعمار” أعطت لفسها حق ممارسة الرقابة على حريات الغير، وفرض الوصاية على عقولنا وبآليات التفكير سلفية خارج السياق، وفي زمن إنحصرت فيها الشجاعة في السفسطة. هؤلاء يملؤون الفراغات التي لم تغطيها آليات التوعية الإعلامية والتحسيس المجتمعي. فيستمدون قوتهم من جهل الأتباع، ويستغلون حرية الرأي على الفضاء الأزرق لنفت سمومهم داخل المجتمع لكسب عائدات ‘الحلال’ من إرتفاع المتتبعين والأدسانس؛ وبذلك يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله بدون علم.

لقد إمتد المد السلفي ليشمل المسيرات النضالية أو ‘المليونية’، إذ غابت عنا شعارات شاملة لكل الإنسانية على شكل أشعار يتغنى بها أحرار العالم: “إذا الشعب يوما أراد الحياة ……”؛ وحلت محلها شعارات ضيقة تجيش للمعارك وتنادي بالتقتيل والإقصاء: “حيدر حيدر يا يهود …. “. تمشيخ النضال، وإنسحب الكفاح في الواقع لتقوم مقامه العجرفة في المواقع.

في جبال الأطلس حيث المدارس العتيقة، والتدين الوسطي، وفقهاء أمثال المرحوم سيدي الحاج الحبيب بمطقة تنالت بأيت باها، يلقنون الطلبة الوسطية والإعتدال والتواضع الأخلاقي والجدال بالتي هي أحسن، والإيتعاد عن التشدد والتطرف، ويلائمون الدين بالسياق الأمازيغي والوسط القروي الذي يعيشون فيه.

في عقول المستلبين فكريا وعقائديا، أصبحت المشيخة المشرقية مرجعا في التدين، وهي مرجعية بعيدة زمانيا وجغرافيا وغير صالحة لا تاريخيا ولا إنتماءا. إنسلخلنا عن دواتنا وإنسلبنا نحو ثقافة دخيلة على مجتمعنا، لنعتنق الغرباء حتى أصبح الوطن لا يتسع لأهله.
فقهاء سوس لم يسموا أنفسهم يوما “بالشيوخ” ولم يقبلوا أن ينعتوا بألقاب جهادية دخيلة على هويتنا أو يتسموا بأسماء ضخمة ولم ينسلبوا او يغيروا بوصلتهم تجاه المشرق، أو ينسلخوا عن جلدة قوتها عراقة ثقافتهم الأمازيغية وحصنتها كي لا تنجر أمام أول منعرج. بل ولم يتبنوا يوما فتاوى تحلل وتحرم، لأن الأعراف المتجدرة بالمنطقة لن تسمح بذلك، لم ينهوا عن نظم الشعر ولا الإستمتاع بالموسيقى ولا ممارسة الغناء، بل منهم من زاوج بين فن النظم والرقص بأحواش والإمامة بالمساجد. في قرى سوس مثلا، تعيش الساكنة ثقافتها بكل دلالاتها، فلا وجود للبرقع و ولا مكانة للباس الأفغاني؛ حيث في بعض الأحياء الهامشية بالحواضر تظنك حللت بكابول بكثرة غرابة الزي النسوي الملثم.

عادت مؤخرا أصوات، عهدنا عنها توظيف الدين لقضاء أغراض شخصية، وخدمة أجندة مذهبية وتراثية، منها من تحملوا مسؤوليات كبرى، ويقتاتوا من الريع دون خجل فصمتوا دهرا، خوفا من أن تنفطم الرضاعة وينقطع المكسب الريعي، ونطقوا مؤخرا جهلا، إعتقادا أن الذاكرة الشعبية قصيرة أو نسيت درف دموع التماسيح والكذب على الدقون أمام الجماهير. ليس هكذا تكتسب الشعبية ويعطى المثل كقدوة للناشئة. الشعبية السياسية تكتسب بالتضحية والثبات على المواقف الشجاعة ونصرت القيم الإنسانية وإنسجام القول والفعل.
إنطفأت مؤخرا آخر شمعة وهمة سياسية في الوطن، وأفلت آخر نجمة كانت ساطعة في سماء العمل السياسي الجاد والوطنية الصادقة، رحمك الله يا السي بنسعيد أيت إيدر والترقد روحك في سلام، دخلت التاريخ من بابه الواسع. للأسف لم تنل حقك حيا وميتا، لم ينعيك الرفاق بالشكل الذي تستحقه خصالك. ولم تعاصر أجيال الحاضر مواقفك الشجاعة، ونضالك الهادئ ودفاعك المستميت على الطبقة الدنيا وبوادي سوس، في زمن التهافت نحو مكتسبات ريعية والتطبيع مع الفساد والجبن. نتأسف لجيل لم يعاصر رجالات الوطن من طينة اليوسفي، و عبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد ويعتة، ونشأ على قوم الشوشرة والبلطجية السياسية. عشنا وشفنا زعماء من ورق يغيرون المواقف كما يغيروا مناديل الجيب، كنا شهداء على شبه أبطال تنطفئ شمعتهم في زمن قياسي بنسمة ريح ريعية. لم يتبقى في الساحة سوى كائنات لفظتها أزمنة العنترية الفارغة، ترضى ولوج الميدان خلسة من النوافد الضيقة. هزلت حين هوت المبادئ، وأصبح للقيم أجر وللنضال تعويضات وللمسؤلية النيابية والوزارية تقاعد سمين.

كي لا ننسى، كل مكتسبات الشغيلة اليوم، على سبيل المثال: تحديد ساعات العمل، والعطل الأسبوعية والسنوية والتغطية الصحية ونظم التعاضد والتقاعد، والإنتماء النقابي أو بالأحرى التنسيقيات! وغيرها مما تتمتع به الشغيلة اليوم ونحتضنه بفخر، هي تراكمات الدفاع عن الحريات وقوانين وضعية أنتجتها الأفكار التحررية والثورات العمالية الغربية على العبودية إنتصارا للكرامة الإنسانية وسط الحقول الزراعية والهزات الصناعية بالمعامل، إنحنت إليها عجرفة التقاليد الفيودالية والإقطاعية وتبنتها رؤوس أموال الشركات الكبرى خشية توقف الآلة الإنتاجية وفقدان اليد العاملة الصانعة لثروة الأغنياء. وعلى أولي الألباب أن يتذكروا أن المكتسبات لم ينتجها مشاييخ المشرق وسلفية غلات التدين. هذه المكتسبات نتمتع بها جميعا ونأكل غلتها حلالا طيبا. مع ذلك يستقوي بعض المستفيدين منها بحماة المعبد القديم للوقوف، بنفس سلطوي ذكوري، أمام بعض تعديلات المدونة بدعوى أنها بدعا وحراما.

الرجوع للإجتهاد الديني لملاءمة النص والواقع المتغير محمود لإنارة الطريق ومسايرة العصر، لكن هناك قوى سلفية غرضها فرملة تقدم المجتمع وشيطنة كل تغيير في الأفق وتأخير سيرورة التطور. زمن التقدم ثمين لن يقبل بأنصاف الحلول ومحدودية البدائل، وإن حدث، فسنهدر وقتا غاليا ونعيد تأخير التطور المجتمعي المنشود، ونرهن أجيالا داخل قوقعة محجرة لعقود.

قد يقول قائل إن مجتمعنا لم ينضج بعد بما فيه الكفاية لتقبل التغييرات دفعة واحدة، على المشرع أن يدحرج التعديلات بالتقسيط. ربما الأمر صحيح، لو تعاملنا مع التعديلات القطاعية المشؤومة المنزلة بدون منهجية تشاركية بنفس المنطق والحنان، خاصة فيما يخص نسف منظومة التقاعد، و سن العمل بالتعاقد، وتحرير المحروقات، وتبني بشكل أحادي للنظام الأساسي بقطاع حساس كالتعليم وغير ذلك من إجتهادات الصالونات.

العالم يتجه نحو توسيع الحريات الفردية، وقطار التطور سائر فإما أن تستعد لإمتطاء العربة داخل المحطة في وقته وتسجل موعدك مع التاريخ، أو نصبح خاج السياق، وتؤدي الأجيال القادمة ضريبة التأخير غاليا لاحقا.

صدق أحد شعراء عصر الإنحطاط حين قال:
مما يزهدني فى أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها و معتمد
ألقاب مملكة فى غير موضعها
كالهر يحكي إنتفاخا صولة الأسد !

مقالات ذات صلة

بنود اثارت جدلا كبيرا وتجب مراجعتها لخطورتها . كيف تفاعل المغاربة مع مدونة الأسرة الجديدة ؟

ابنة الناظور الشاعرة ماجدة البارودي تصدر كتاب “أسرار زهرة اللوتس” في أدب الرحلة

بعد انتقاذات احتضان المغرب لمونديال 2030 ، هذا ما سنجنيه من تنظيم هذا العرس الكروي العالمي

تعليقات( 1 )

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

  1. BOUKDOURI FATIMA :

    كل التوفيق والنجاح أستاذ الحسين

    0