قبل أن أقصد توا إلى الموضوع، ينبغي أن أرسل بعض الأضواء ولو ضعيفة، على الحالة التي كانت تعيشها البشرية في عالم ما قبل ظهور الدعوة الإسلامية الجديدة، وإشراق شمس الرسالة المحمدية الخالدة، فقد كانت البشرية آنذاك تعيش في عالم مجرد عن النظم والقوانين التي تنظم حياة الإنسان، وتجعله شاعرا بما له من الحقوق، وما عليه من الواجبات، وسواء في ذلك الإلهية والوضعية، وحيث أصبح الناس لا يتقيدون بقانون ولا يخضعون لنظام يوجههم، ويخط لهم السبل الواجب اتبعاها، والسير داخلها، وتقرر عقوبات وحدودا تقام على من زاغ عنها أو تجاوزها، وحتى إذا صار الإنسان في مأمن من القانون وعقابه، أطلق لنفسه العنان، فمن سابح في نهر من اللهو والصهباء، إلى غارق في بحار من الدماء والأشلاء، ومن عابث بالمقدسات والأعراض، إلى مستهزئ بالقيم الروحية والديانات السماوية، ومن عابد لأسلافه إلى ساجد للأصنام وما إلى ذلك. وهكذا تقسمت حياة الناس، وصار كل يتجه حسبما يلذ له ويهواه، غير مكترث بما يجري خارج عالمه الذي يعيش فيه، ولا عابئ بدعوة الله الموجهة إلى الناس بواسطة أنبيائه ورسله، وبالتالي دعاة الإصلاح والتجديد، الشيء الذي جعل هذه الحياة غير طبيعية وصيرها تقترب من الغباء ويقترب منها، ولما تستكمل مهمتها التي رسمها القدر. إذن فقد كان من اللازم تنفيذا للخطة المرسومة التي لم تستنفد أغراضها بعد، أن يظهر في عالم الوجود شخص له من قوة الروح وصلابة العزيمة وصفاء الذهن، علاوة على كثير الصفات التي يتوفر عليها المصلحون والمجددون، الذين يتسنى لهم أن يقبلوا الأوضاع، ويغيروا مجرى التاريخ، ويصنعوا عالما أفضل، وقد شاء القدر أن يكون هذا المنقذ وهذا المجدد هو النبي محمدا عليه الصلاة والسلام، فانبعث من بين جدران مكة دار الشرك ومعقل الوثنية داعيا إلى الله وهاديا ومبشرا ونذيرا، وهو يحمل مشعل نور الإسلام الذي ينير العقول ويضيء النفوس ويهدي للتي هي أقوم، وقد كانت دعوة الرسول هذه تمتاز بخصائص ما كانت لغيرها من اللواتي سبقنها وهذه الخصائص هي:
1) أنها خاتمة الشرائع الإلهية والديانات السماوية.
2) مطالبة جميع المكلفين باتباعها.
3) عدم قبول غيرها.
وبديهي أن دعوة امتازت بهذه الخصائص والمميزات لابد وأن تكون أصلح للناس، وأوفى بحاجياتهم وأن تكون أقدر على تحقيق أمانيهم وأضمن لأنواع سعادتهم لأن الدعوة إلى شيء واحد دون ما سواه، وهو ما دعا إليه رسول الإنسانية عليه السلام، بأمر من الله ووحيه، دعوة دائمة كفيلة بخير النظم والقوانين التي تحقق الإسعاد للناس، وإصلاح المعاش والمعاد، إذا هي روعيت وعمل ضمن إطارها، وإن إلقاء بصيص من النور على تلكم النظم والقوانين ليجعل الإنسان متحققا من الضمانات التي تتكفل بها الدعوة الإسلامية لكل من اعتصم بحبلها، ولم يحد عن تعاليمها السامية.
مقالات ذات الصلة
مظاهر الحرية الشخصية في الإسلام
ينبغي قبل التعرف على مظاهر الحرية الشخصية كما يراها الإسلام، أن نعرض إلى جوانب الحرية الشخصية وهي دائرة بين الحريات الآتية :
1) حرية البقاء.
2) حرية العمل.
3) حرية الرأي.
4) حرية الاعتقاد.
أ) إذا كان للإنسان اختيار في تصرفاته من سفر وإقامة، وملازمة البيت أو مغادرته، وذهاب وجيئة، وهو آمن مطمئن دون أن يخشى اعتداء يجعل لحياته حدا، وذلك بنزع روحه وإراقة دمه، فقد حصل على التمتع بحرية البقاء والحياة.
ب) وإذا كان غير قاصر ولا مضروب على يد، يجول في المال والمتمول كان النفع يختص به أو يعمه وغيره بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وإنشاء المشاريع، والمساهمة فيها، من أبناء شعبه، وكذلك له الحق في أن يتعلم من العلوم والفنون والمهن ما شاء الله أن يتعلم دون أن يتعدى هو على أحد، أصبح يملك من الحقوق حرية العمل.
ج) وحيث كان له من الآراء والاتجاهات ما يناقض رأي حاكم البلاد واتجاهه، الذي يرى أنه لا يتفق وحقوق الإنسان، وكان له حق الإعلان عن رأيه الذي هو مناقض ومناهض لسلوك الحاكم وتصرفاته، وحق دعوة الحاكم إلى الرجوع إلى الصواب، وإقرار العدل بين الناس، والنزوع عن الجور، وذلك بحكمة وموعظة حسنة، من غير أن يصاب بأذى، ولا عومل بعنف، ولا لحقه أي ضرر كيفما كان نوعه، من أجل موقفه، أي صار له حرية الرأي.
د) فإذا ارتضى الإنسان لنفسه عقيدة ودينا، وأخذ يقيم شعائرها كيف يشاء ومتى يشاء، دون أن يلحق غيره بضرر أو يمسه بأذى، أصبح يتمتع بحرية الاعتقاد.
وعلى ضوء ما سلف وأشباهه يتبين ما يعني بالحرية الشخصية، إذن هي حق يخول لصاحبه التمتع بالحياة والبقاء حسب إرادة الله، ومزاولة ما تميل إليه نفسه من الأعمال، وإعلان أرائه حسبما يشاء وكذلك المبادئ والعقائد، ولكن التمتع بكل ذلك يراعى فيه تجنب العدوان، كما تراعى فيه الحدود، والعمل ضمن إطاراتها، وإلا كانت الحرية ضربا من الفوضى، كسلب الأموال من أربابها والاستهتار بالحقوق والمقدسات، والاعتداء على الغير ومهاجمة الشرائع، وعدم الاكتراث بالآداب الاجتماعية، وما إلى ذلك مما يصير كل من صدر منه ما ذكر غير حر، وإنما هو فوضي مجرم، يستهدف بعمله هذا العقوبة والحرمان من الحرية.
فضل الإسلام على الحرية الشخصية
لقد عرفنا من خلال العرض السابق جوانب الحرية، ولكي نتعرف على ما لها من قيمة في الإسلام، ينبغي أن نعرض إلى بعض نماذج الحرية في الدول التي كانت ذات نفوذ وسلطان وقت ظهور الإسلام، وما له من حسن الرعاية وكامل العناية بها، مما يمكننا من المقارنة بين الحرية في الإسلام وبين الحرية في غيره. ولنشر إلى أشهر الأمم وقتذاك وهي: الرومان، الفرس – العرب.
أما الرومان فقد عرفت بعداوتها للحرية، وبكونها مهد الاستعباد والاضطهاد، يدل على ذلك أنها كانت تتكون من طبقتين: الأشراف والدهماء، وليست ثمة طبقة تتوسطهما. أما الأولى وهي طبقة الأشراف فقد كان لها من الحقوق والامتيازات ما بين الإمارة والقيادة والسلطان والتملك للحقول والضياع والتمتع بسكنى القصور وركوب الجياد وما إلى ذلك من مظاهر الفخر والعظمة، حتى أصبح ذلك وقفا عليها، وحراما على الطبقة الأخرى ولو التفكير في مشاركتها حتى في عالم الخيال، علاوة على الاستبداد والتصرف المطلق، ونشر الذعر في صفوف تلك الطبقة المستعبدة اليائسة، لأن أولائك الطغاة لا يخضعون لقانون ولا يسالون عما يفعلون.
وأما الفرس فكانوا أسوأ وأكثر ظلما وألعن استبدادا وأشد قسوة، لأنه لم تكن لهم قوانين موحدة مثل الرومان. بل كان كل إقليم منهم فريسة استبداد الميول والأهواء، وكانت الرعايا تعيش في زوايا الإهمال، لا يعنى بها إلا من حيث جباية الأموال، لتنفق في الملذات والشهوات ومظاهر الزينة والترف، الشيء الذي حرم سواد الشعب من حقه في الحياة، وذلك ما كان سببا في انتشار الفوضى، وتوالى المحن، وشمول الظلم والخراب، وتنوع المآسي التي يرزح الشعب تحت كابوسها دون أن يجد سبيلا للفكاك والخلاص، وأنى له أن يجدها، وقد جمدت مواهبه وركد تفكيره، من جراء حياة الشقاء التي يعانيها.
وأما العرب وإن كان لهم بعض الصفات الحميدة كالشمم والإباء ونصرة المظلوم وحماية المستجير والكرم والوفاء، فقد يوجد بجانبها قبائح ومخازي، مثل وأد البنات، واستباحة السلب، واستبداد الأقوياء بالضعفاء، وعدم الاقتصاص من الأشراف، والزواج بغير استئذان المرأة ولا موافقتها، والطلاق المرسل الذي لا يتقيد بقانون ولا نظام، وغير هذا مما لا يزال يحكم التوارث والتعاقب في الأجيال من المظالم والاستهتار بالحريات.
هذا وحيث ذكرت حالة الزواج والطلاق عند العرب، فإنه لا يفوتني بصفتي رئيس محكمة شرعية، تعرض أمامي يوميا عشرات المناظر التي تتمثل فيها مآسي الزوجية والطلاق، الذي هو حق للرجال وحدهم، يستعملونه لمبرر ولغير مبرر، وذلك ما يخلق للمجتمع كثيرا من المصاعب والمشاكل التي يستعصي حلها، مثل تفكك الأسر، والانحلال الخلقي، وتربية الإجرام في الأبناء الذين يفقدون رعاية الآباء، ويحرمون ذلك العطف الأبوي، ويصبح وجودهم في الشوارع يهدد المجتمع وينمي فيه غريزة الإجرام والشر، تلافيا للموقف وتخلصا من هذه الأدواء، أن أقترح على من يعنيهم الأمر أن يعملوا على تشكيل لجان لدراسة الأمراض الاجتماعية، تختص كل لجنة بدراسة جانب من جوانب المجتمع، على أن يكون لأفراد اللجان من الكفاءة والاختصاص والشعور بالواجب ما يمكنهم من أداء رسالتهم على الوجه الأكمل، وعلى ألا يكون هؤلاء الأفراد من الرجعيين المتحجرة عقولهم، وهم أسارى التقليد، ولا من المجددين الهدامين الذين تتبخر المعاني في رؤوسهم، وعلى ضوء هذا توجد حلول لكثير من المآسي الاجتماعية والمشاكل الوراثية وبذلك نخلق مجتمعا أفضل.
تعليقات( 0 )