)
النص صرخة مدوية ،وإحتجاج يستقل سطرا بأكمله :
وا ذلاه!
لان فحوى الكلمة لم يجد من يزاحمه، او يكبحه او يدحره مذموما.
الذل يهيمن على المكان لانه يتربع على بياض السطر كما يهيمن العنوان على الإبداع، فلا تجد كلمة أخرى تسبقه او تلحقه لتحد من غلوائه، لإن الوصف هو تخصيص للتعميم، وهو كبح لمشاعة المعنى كطحلب ينتشر في كل أرجاء المكان.
والذل من جهة ثانية في هذا السطر او هذا الإستهال يعتبر مرجعا لكل المعاني التي تترتب عليه، واستقل مكانها فيما يتلو من السطور، كمضمون منثور ،لا يتقدم النص إلا بالإحالة عليه، وكل ما لايلائمه يصبح نشازا.
ومن هنا يتمدد الاستهلال، ويبارك لكل لفظ مُجالستَه عند الإقبال، فمن رضى عنه قربه في الحال، ومن لم يعجبه اقصاه وأرجأه عن الوصال.
وهكذا يتمدد النص من خلال منهجية دقيقة تقدم وتؤخر حسب الحاجة لتصبح النموذج والمثال، وكل نص يخلو من المنهجية يغدو بلا أوصال.
وينتقل النص من خلال حسن التخلص إلى ترجمة معنوية فيغدو ( الذل) (صرخة) ، أي كما قيل عن؛ شعر طرفة بن العبد (تأنث المذكر) أي أن المذكر كآدم/استخرج من ضلعه أنثى (حواء/صرخة) ليتناسل النص ويفتق الأرجاء كصرخة مدوية تتخذ لها أشكالا متنوعة.
وما النص إلا تشبيهات لهذه الصرخة التي لا يمكن الوقوف عليها إلا من خلال الشبيه، لا الند، وذلك اقتفاء لامرئ القيس حين قال:
أيقتلني والمشرفية مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فقد التمس الإستغراق في الوصف بالتوسل بما كانت العرب تخشاه وهو الغول التي يتطاير الشرر من فمها كما يتطاير المارج من النار.
هذا التشبيه للذل يجد مرجعيته في العصر الجاهلي في أكبر حربين مدمرتين للقبائل العربية :حرب (البسوس) وحرب (داحس والغبراء) ، فقد دامت كل منهما أربعين سنة، وقيل لو لم تدر رحى الحرب لاضطرت بنو تغلب، قوم عمرو بن كلثوم، إلى اكل البشر لكثرة عددها.
هذه الحروب التي أتت على الأخضر واليابس كانت وليدة تفاهة قبلية، من أجلها أريق دم غزير، فالأولى حرب (البسوس) التي أوقد نارها قتل الملك كليب لناقة البسوس ظلما وبغيا، وقد اسفر الحادث عن قتله وسفك دم كثير، كان بالإمكان تجنبه، بدفع ثمن الناقة إرضاء للبسوس والحد من إندفاع (جساس) ولكن الحمية حمية الجاهلية أخذت قدم السبق فاسترسلت الحرب أربعين سنة.
إن هذه الصورة، صورة البغي الذي يتمطط ويتلذذ بالتمدد،هي ما يحصل الآن في غزة. فكليب أمَّرته العرب عليه وجعلته ملكا، ولكنه طغى وأصبح يستبيح النساء كما يستبيح المراعي، بل وأصبح حاميا السحاب ،فحيثما هطل فثمة مراعي ومسارح كليب، وكذلك سولت نفس الكيان له ان ينتهز فرصة الاستعمار كما انتهز كليب فرصة الحروب، ليجد له مكانا بين العرب كلقيط، وكدعي لبريطانيا قبل أن تتبناه أمريكا، ثم حاول هذا الدعي ان يبسط نفوذه حيث نزل المطر، فلم يُبق لأهل الدار ولم يذر،بل ومنع صوتهم من ان يرتفع او يذكر، ثم تمادى في غيه واستمر، وأزاح سكان الدار عن البيت وعن كل ممر، ودحرهم عن البر والبحر، حتى أصبحت حياتهم كلها في خطر.
اما التشبيه الثاني فهو يلتمس بلوغ الأرب عن طريق حرب (داحس والغبراء) من تاريخ العرب، فمن أجل سباق بين حصانين، اشرابت العناصر الحيوانية والوحشية في نفوس (عبس وذبيان) فتفانوا ودقوا بينهم عطر منشم، وهذا السباق المحموم يبزغ الآن في العصر الحديث، فالكيان دعي أمريكا و الأمريكان، يريد أن يكون له قصب السبق في التكنولوجيا وفي الفلاحة وفي الإستئثار بالمياه ،والإستحواذ على الأسواق في كل مكان. فداحس والغبراء لا تخلف غير القتل والأشلاء، وهاهي غزة تشهد على طغيان يدحره الإباء، والسلطة ليست مشاعة في الأشياء، بل لابد لها من شرائع وقوانين تحد من حريتها البلهاء، وإلا ساد التمرد والبلاء.
إن العنوان يجد تأصيله في الأبيات الموالية :
ولأن الصحراء
ماعادت صحراء
لا بأس من أن تنتفي من خريطة العرب
النخوة
والعزة
وذاك الكبرياء
نعم فالذل الذي سيطر على البَسط، أصبح نعم المثل والنمط، فهو قد اصاب الصحراء التي كانت جرداء تتربع فيها الرمال كيف تشاء، أصبحت هذه الصحراء خالية من الكبرياء، تربعت عليها الطحالب، وتمدد الطلح والعوسج بلا حياء ،وأصبح السكان الأصليون غرباء، واين نحن من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع بلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) فحربي البسوس وداحس والغبراء وحرب غزة، لم تجد من يغير منكرها إذ غدت الأجساد أشلاء والمباني دمارا يحتاج لإعادة البناء، حقيقة كل الشعوب تغير هذا المنكر بالقلوب، ولكن الغرب يدعم الكيان بالجيوب، أما ايادي الإخوة العرب فمثقلة بالمواثيق الدولية التي افرزتها الحروب، وكل مسؤول من العرب إذا انتدب نفسه للدفاع عن إخوته يتصدي له من الغرب لصوص كل قيمهم نُدوب.
======
مقاربة الأستاذ (لحسن قراب) لقصيدة المبدعة (ربيعة الكوطيط)
والاه !
صرخة علت في الأرجاء
إن البسوس قد أهينت في أرض العرب
خمسون سنة
والدم يراق لأجل كرامة خرقاء
وخمسون أخرى
لأجل رهان بين داحس والغبراء
ولان الصحراء
ما عادت صحراء
لا بأس أن تنتهي من خريطة العرب
النخوة والعزة
و ذاك الكبرياء.
تعليقات( 0 )