ورد في القرآن العظيم آيات تقسم الناس إلى قسمين : أشقياء وسعداء، وآيات تصف أحوال السعداء والأشقياء ومصيرهم في الآخرة من ذلك قوله تعالى في سورة [هود: 105-108] ” يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَـأَمَّـا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)”?والسعادة لغة هي ضد الشقاء. فما هي السعادة وما هو الشقاء في المفهوم الإسلامي؟ إن للناس في تخيل السعادة مذاهب ومقاييس شتى، فالسعادة حالة اعتبارية تصور لها الناس مفاهيم مختلفة متباينة أو متضادة في أفكارهم باختلاف أصنافهم وأمزجتهم ومداركهم، وثقافتهم ومواقعهم في الحياة.
وقد تتبدل وتتغير مفاهيم السعادة وصورها لدى الشخص الواحد في مراحل حياته، تبعا لتبدل أطواره وتطور أفكاره، وتقلب الحوادث عليه.
مقالات ذات الصلة
ومن هنا كانت السعادة هي ذلك المأمول المجهول بين الناس، ومعناها هو الواضح المبهم في مداركهم:
فكل واحد يبتغيها، ويلهج بذكرها، ويقتفى ما يظهر له من آثارها، فإذا وصل إلى المنازل التي تنتهي إليها تلك الآثار وجد أنها غير منازل السعادة التي كان يحلم بها ويتصورها ويسعى إليها، فيرتد كاسف البال، إما يائسا وإما بائسا.
وقد يرى المرء بعض الناس في مظاهر نعمة تنبئ بسعادتهم، فإذا اطلع على المخبأ من أمرهم وهمومهم، أو وصل إلى مثل حالهم، وذاق ما فيها من مكدرات الصفو ومنغصات الحياة، عرف أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن السعادة لا تزال محتجبة عنه في خبائها، معتزة بخفائها.
وفي الغالب يكون لمفهوم السعادة في نظر الإنسان ارتباط وثيق بالمثل العليا التي يطمح إليها في حياته، ولكنها ليست هي إياها، فقد يطمح الإنسان إلى أهداف مغريات من حكم وسلطان وجاه ومال، وإن كان لا يعتقد أنه يكون سعيدا بها، وإنما يهواها استجابة لأقوى شهواته وأشدها ظمأة.
ولعل مفهوم السعادة من أبرز الأمور التي يختلف فيها نظر العقلاء والفلاسفة عن نظر العامة والبسطاء، مع تطلع الجميع إليها ونشدانهم إياها، وحرصهم على اكتسابها والتمتع بها.
فالنظر العامي إلى السعادة مادي وطيء قاصر. وأما نظر العقلاء إليها فمثالي عال بعيد.
والنظر العامي إلى السعادة أكثر تبيانا في إدراكها. فهو يقع على صور شتى مختلفة باختلاف أنواع متع الحياة وألوانها، واختلاف الميل والنزعات، لأنه كما قلنا نظر مادي، فهو يمزج بين معنى السعادة وهناءة العيش، فاللون الذي يروقه من ألوان تلك الهناءة يرى فيه السعادة، ومن ثم كان كل إنسان يرى صورة السعادة المنشودة إنما هي في تحقيق هواه. فتختلف تلك الصور لهذا المفهوم الواحد باختلاف الأهواء، وما أكثر اختلافها وبواعثه.
فالملك مثلا، قد يرى السعادة في أن تدين له البلاد، وتخضع العباد، وتجبى له الأموال في أمان واطمئنان.
والتاجر مثلا قد يرى السعادة وينشدها في تعاظم الأرباح واستمرارها حتى يصبح من ملوك المال.
والمرأة قد ترى السعادة في أن ترزق زوجا ملائما لذوقها مثريا محبا مطيعا لها تتحكم فيه وفي ماله، ويسعى إليها برغباتها.
والمريض المبتلى يرى سعادته في عافية لا يشوبها ألم، ولا يحرم فيها شهوة مأكل، أو لذة متعة.
ومحب الوجاهة يرى سعادته في الشهرة الذائعة والجاه العريض.
والمتعب يرى سعادته في حياة راحة ودعة وكفاية.
وهكذا كل إنسان، إجمالا، قد يرى أن أول عناصر سعادته في أن يكون مرفها منعما، موفور المطالب واللذائذ، على اختلاف في أنواع هذه المطالب، بحسب اختلاف الأهواء.
لكن كل هذه المفاهيم خاطئة. وأوضح دليل على خطئها تناقضها في نظر إنسان وآخر.
وقد ضرب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذه المفاهيم الخاطئة في معنى السعادة ضربة دامغة، بفيصل العقل والدين والنظر الرشيد الذي ينظر إلى الحال والمآل معا، وأقام مفهوم السعادة على أساسين اثنين هما: الكفاءة في الدنيا، والإعداد للآخرة. فقد روي عنه عليه السلام كما أورده السيوطي في الجامع الصغير أنه قال: «كفى بالمرء سعادة أن يوثق به في أمر دينه ودنياه».
وبذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الناس مفهوما جديدا سديدا للسعادة ثابتا غير متباين الألوان ولا متناقض المعاني، لأنه يقوم على أساس الحقيقة التي من خصائصها الثبات.
فالثقة بالإنسان في أمر دنياه إنما هي بأن يكون قادرا على ممارسة العمل الذي يطلب منه في هذه الحياة الدنيا، وأدائه على أكمل وجه.
فقدرة التاجر تبرز في تجارته، والصانع في صناعته، والموظف العامل في إدارته والسياسي في حزمه وسياسته، والقائد الحربي في حنكته وشجاعته، والمعلم في طريقة تعليمه وتربيته، كل ذلك وأمثاله هو محل الثقة بالإنسان في أمر دنياه.
1 – فإذا لم يكن الإنسان كفيا معتدا به في إصلاح أمر الدنيا، سواء أكان ذلك لنقص في مواهبه وقابليته، أو كان لتقصيره في تجهيز نفسه بدعائم الكفاية ووسائلها، أو كان لعارض آخر مانع له من أن يكون في مصاف من يعتمد على قدرتهم في إجادة العمل فهو ناقص السعادة. أي أن العجز بجميع صوره وأسبابه مخل بكمال معنى السعادة. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العجز وما يؤدي إليه. ففي المأثور من أدعيته الشريفة قوله «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل».
فالجاهل والأحمق والضعيف والجبان وأمثالهم ليسوا بسعداء، ولو كانوا منعمين مترفين لأن فيهم عجزا.
2 – وإذا كان الإنسان قديرا كفيا مجيدا لما يتولى من عمل، لكنه غير موثوق به فيما يصلح أمر آخرته من إخلاص، وأمانة، وعفة عن المحرمات، وقيام بالأوامر الإلهية التي تهذب الروح وتوجه إلى الكمال الإنساني، الذي يرتبط به أيضا صلاح العمل في الدنيا، أي إذا كان المرء، إجمالا، قويا غير تقي، كان أيضا ناقص السعادة رغم كونه قديرا على عمل دنياه.
وإن السعيد الكامل هو من اجتمع فيه العنصران فكان ثقة في كفايته وفي تقواه، ليكون مصلحا لأمر دينه ودنياه، وبعد ذلك لا عبرة لكونه متعبا في الحياة، أو محروما بعض حظوظ فيها، ولو كانت من الحظوظ المباحة، بل لا بأس أن تذهب نفسه ضحية في سبيل واجبه كالمجاهدين المصابين، والشهداء، فلا يعد هذا نقصا في سعادته، بل بالعكس يعتبر زيادة في مرتبتها. فبالأولى أن لا يخل بحقيقة معنى السعادة كون الإنسان محروما حرمانا جزئيا من بعض متع الدنيا وراحتها.
فالدنيا مرحلة سفر مليئة بالمتاعب والأهوال لا يمكن أن تصفو صفاء كاملا لإنسان. فربط السعادة بصفاء الحياة عبث، لأن هذا الصفاء مستحيل في العادة، فيكون تعليق الأمل به مدعاة إلى الضجر الدائم، ثم إلى اليأس والقنوط، متى فاتت الحظوظ العاجلة المأمولة، التي لن تتكامل لأحد من الناس. وهذا غفلة عن الجانب الروحي في الإنسان، وعن المصير الدائم له بعد هذه الحياة الدنيا، التي هي طريق مؤقتة، لا بد لكل مار فيها من أن يعمرها بالعمل الصالح، وذلك بأن يجتهد في بناء محطات صالحة نافعة لمن يمر بعده، وأن يتدرع في مروره وبنائه بالصبر والقوة والتضحية والأمانة ليكون مثلا حسنا لغيره من المارة يلتمسون السعادة في النسج على منواله.
فالملك أو الرئيس الذي يوثق بحسن قدرته وإدارته وسياسته، من الناحية الدنيوية، وبحسن تقواه وإخلاصه لأمته وإيثاره لمصالحها، من الناحية الدينية، هو سعيد مهما حمل في سبيل ذلك من متاعب النصب.
وكل موظف عامل بالنسبة إلى نوع عمله، إذا حمل هاتين الثقتين فهو كذلك سعيد.
والزوجة إذا كانت ثقة في قدرتها على أداء مهمة العمل في مملكتها الصغيرة البيتية والعائلية، مع التقوى والأمانة والعفة، بحيث ترعى حق نفسها وحق زوجها وحق ربها، هي سعيدة وإن كانت في فقر وكد لا تتيسر لها وسائل الراحة والمتعة على حسب ما تشتهي.
هذا بيان ما يهدف إليه ذلك الحديث النبوي من جوامع كلمه (صلى الله عليه وسلم): كفى بالمرء سعادة أن يوثق به في أمر دينه ودنياه.
وبذلك قد قلب النبي عليه السلام معنى السعادة الخاطئ رأسا على عقب، ونقلها من مفهوم مادي منحط غير لائق بعقل الإنسان وبعد نظره في الأمور وعمق إدراكه فيها، إلى مفهوم آخر أسمى وأرفع شأنا، وأوسع معنى.
فإن ذلك المفهوم المادي للسعادة يتطلبه الإنسان فيعجزه إدراكه في هذه الحياة المبنية على المتاعب والمصائب فيرى نفسه مغبونا فيعتريه اليأس من السعادة فيقعد به النشاط.
وأما ذلك المفهوم الرفيع السامي الذي بينه النبي عليه الصلاة والسلام فهو يجعل السعادة في متناول يد معظم الناس، إذ يربطها بعمل الإنسان نفسه، واختياره لمسلكه، لا بمواقاة الأقدار الجامحة التي لا يستطيع الإنسان إخضاعها وتسخيرها.
فقد رسم النبي طريقين: أحدهما للسعادة وهو سلوك ما يجعل الإنسان ثقة في دنياه ودينه، وآخر للشقاوة، وهو خلاف ذلك. والإنسان يختار مسلكه منهما. وبذلك يقوى نشاطه وصبره على واجبه، ولو كان فيه مكدودا ومحروما، ما دام يعد به في نظر الناس وعند الله رشيدا سعيدا.
تعليقات( 0 )